السلام عليكم إخواني
أقدم لكم رواية دموع على سفوح المجد لدكتور عماد زكي
نبذة من المؤلف
هذه القصة:
لوحة حزينة من صميم الحياة ، التقطت أحداثها من بحر النسيان ، فحملتها إلى شطآن الذاكرة ، فجففتها بمدادي وغلفتها بكلماتي ، بعد أن أعدتُ إليها بعض معالمها الضائعة ، وعمقتُ فيها بعض الخطوط والألوان ، ثم وضعتها في متحف الأيام ، عبرة بالغة لمن أراد الإعتبار .
الدكتور عماد زكي
(( يجب أن أطرق أبواب المجد بعزم وإصرار )). هكذا قال عصام في نفسه، وهو يعبر الشارع إلى الطرف الآخر، في طريقه إلى شركة ((التجهيزات العلمية)) لشراء مجهر ومجموعة من الأدوات المخبرية التي قرر أن يجعلها نواة لمختبر متواضع أزمع على إقامته في غرفة خاصة اختارها لهذا الغرض.
وفي الطريق صادفته مكتبة فخمة تألقت واجهتها المضيئة بمجموعة من الكتب المنوعة وقد رتبت بذوق وإتقان، فوقف يتأمل عناوينها، ثم ما لبث أن دلف إلى داخلها . وراح يتجول في أرجائها ، وقد ملئت رفوفها بآلاف الكتب والمجلدات ، فأعجبته طائفة من الكتب العلمية التي شدته موضوعاتها الشيقة فحملها معه ، كما استهوته طبعة أنيقة (( لدائرة المعارف البريطانية )) فطلب من البائع أن يحضر له نسخة منها ثم دفع ثمن ما اشترى وحمل كتبه ومضى ...
وكثيرا ما عبر أساتذة عصام –خلال تاريخة المدرسي الحافل- عن رأيهم فيه بقولهم ((إنه فلته من فلتات الزمان))حتى أن أستاذين من مدرسي مادة الرياضيات في المدرسة تراهنا ذات يوم على من يسأل عصاماً سؤالاً صعبا يعجز عن الإجابة عليه على أن يكون من ضمن المنهاج المقرر، فكان أن خسرا الرهان وازداد إعجابهما بذكاء عصام وتوفقه غير العادي، لدرجة أن أحدهما كان يستدعيه كلما صادفه طالب كسول من طلاب الشهادة الثانوية يتلكأ في حل التمارين الرياضية التي كان قد تعلم حلها في السنوات السابقة، فيحلها له عصام بسهولة تنم عن تمكنه وثقته بنفسه، فما يكون من ذلك الأستاذ إلا أن يأمر طلابه بالتصفيق ثناء عليه، ثم يتوجه إلى تلميذه المهمل بقوله : ((لعله يكفيك عقاباً أن يحل لك التمرين طالب يصغرك بثلاث سنوات دراسية... يعني مرحلة دراسية كاملة)) ثم يشكر الأستاذ عصاماُ على اجتهاده فيمضي مزهواً بنفسه، فخوراً بسمعته، تياها بما أنجز...
بيد أن تفوق عصام لم يكن يتقصر على مادة ((الرياضيات)) فحسب، بل تعداها إلى كل المواد الدراسية الأخرى، لا سيما مادة ((علم الحياة)) التي كانت تجذبه فيجد فيها متعة كبيرة. وقد دفع اهتمامه الزائد بهذه المادة الأستاذ ((عدنان)) مدرس (علم الحياة) إلى أن يطلق عليه لقب ((الدكتور عصام)) مداعبا ومشجعاً، فجاء هذا اللقب بغتة وذهب مثلا، فما لبث أن لصق باسمه، فكان ينادى به في المدرسة والبيت.
وعندما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية، تحول لقب التشجيع والإطراء إلى لقب هو أقرب ما يكون من الحقيقة... فقد كان عصام الثالث على دفعة الشهادة الثانوية لذلك العام، مما أهَّلَه لدخول كلية الطب بجدارة.
وفرحت أم عصام يومها فرحاً عظيماً، عندما زفَّ عصام إليها النبأ، فضمته إلى صدرها في حب وحنان وراحت تلثم وجهه، وهي تهتف من بين الدموع ((مبروك يا حبيبي ... أنا اليوم أسعد أم في الدنيا ... مبروك يا ولدي)). واختلطت في عينيها دموع الفرح الكبير بدموع الحزن القديم على زوجها الفقيد، الذي اختطفته يد المنية قبل أن تقر عيناه بدخوله ابنه كلية الطب كما كان يحلم ويشتاق، إذ توفي قبل سنوات إثر نوبة قلبية مفاجئة.
وانتزعت الذكريات الحزينة الأم من فرحتها العارمة، لتنقلها إلى الوراء... فتمتد بها الذكرى إلى تلك الأمسية الجميلة، حيث كانت مع زوجها الراحل، تضمهما سهرة سمر في حديقة المنزل، بينما كان عصام – وله من العمر يومها ثلاث سنوات – يداعب قطته ((ياسمين)) التي كان يألفها وتألفه... إنها لا تزال تذكر كلمات زوجها الحبيب حينما قال لها ونظراته تعانق وجه ابنه الوسيم :
- هذا الطفل يا هيفاء يملك ذكاءً عجيباً.. علينا أن نتعني به اعتناءً فائقا، حتى يشب رجلاً عظيماً، ويحمل العبئ عن كاهلنا في مستقبل الأيام.
- أجابته يومها وهي تمازحه:
أتمنى لو يصبح إبني مهندساً كبيراً، ليبني لنا ((فيلا)) جميلة تحف بها الحدائق والأشجار...
فاستجاب الأب لدعابتها وقال بلهجة ضاحكة:
- أنتن النساء دائماً هكذا لا يهمكنَّ إلا المظاهر والقـشـور، ولا تفكرن إلا بـ ((الفيلا )) الفخمة والثوب الجميل...
- ثم اعتدل في جلسته وتابع بنبرات حالمة:
- أريده يا أم عصام أن يصبح طبيباً كبيراً... يساعد الناس ويداوي أمراضهم ويخفف آلامهم، والطبيب يا امرأة... يملك اليوم مكانة إجتماعية مرموقة، ويشير الناس إليه بالبنان، لا سيما إذا كان ناجحاً مشهوراً...
- ثم أردف وقد عادت إليه روح الدعابة من جديد:
ثم لا تنسي يا عزيزتي أن مهنة الطب تدر المال الكثير، وبذلك يحقق لك حلمك فيشتري لك ((الفيلا)) التي تتوقين إليها.
لقد التقطت يومها عصاماً، فضمته إلى صدرها في حنان وقالت وهي تغرقه بالقبلا ت:
- بل يشتريها لزوجته التي لا بد وأنها ستختطفه مني في يوم من الأيام....
وانتبه عصام لشرود أمه، وطالع في وجهها ملامح الحزن والكآبة فأدرك ما تفكر به لأنه كان يعاني من الخواطر ذاتها، لذا فهو يشعر اليوم أن فرحته عرجاء، موشحة بالحزن، منداة بالدموع، لأنه لا يجد أباه بقربه، يشاركه بهجته، ويبارك فوزه الكبير...
ورأى أن من واجبه أن ينتشل أمه من دوامة الذكريات فقال لها مواسياً:
- أماه.. سوف تجدين مني كل ما يرضيك ويقر عينيك، وسوف أنسيك عما قريب كل أحزانك القديمة. ثم ضمها إليه ليخفي عنها الدموع التي ترقرقت في عينيه أسفاً على أبيه الذي مات عنه وهو ما زال طفلاً، فنشأ يتيماً محروما من حنان الأب وعطفه، وإن كانت أمه قد عوَّضته عنه الكثير.
إنه يشعر أن أمه هي كل شئ في حياته.. إنها الواحة الخضراء التي يلجأ إليها من قيظ الأحزان ليجد عندها الراحة والسلوى والعطف والإهتمام.. إنها المعلم الملهم الذي يتلقى عنه مبادئ الحكمة ودروس الحياة...
لقد لعبت أمه دوراً كبيراً في تكوين شخصيته، فقد ربته على الأخلاق الفاضلة، وغرست في نفسه حب العمل والصبر على التعب، وعوَّدته على احترام الوقت والنظام، ونأت به عن الدلال والميوعة والانحلال ، فنشأ فتى رشيداً... قوي النفس والإرادة... علي الهمة ... طاهر الوجدان... يسعى نحو رجولة مبكرة تبشر بالكثير. لقد كانت أمه دائما وراء تفوقه ونجاحه، تحفه بالدعوات الضارعة، والكلمات المشجعة التي كانت تدفعه قدماً إلى الأمام :
- أماه أنت صاحبة الفضل الأول في نجاحي، وإليك سوف أهدي كل منجزاتي.
قالت الأم وهي تطبع على جبينه قبلة حانية:
- بل هو تعبك واجتهادك يا ولدي ، وقد أثمر الآن...
- أدامك الله يا أمي ذخراً لي، ووفقني لإرضائك....
ودخل عصام الجامعة... فاستهوته علوم الطب التي طالما عشقها، واستغرقت وقته وتفكيره وصارت شغله الشاغل ثم بدأت طموحاته تنمو وتتبلور مع الأيام... إنه لا يرضى أن يكون مجرد طالب في كلية الطب، بل لا بد أن يكون الطالب الأول فيها بلا منازع. ثم إنه لن يكتفي بشهادة (( البكالوريوس ))، بل لا بد له من متابعة دراسته العليا في إحدى الاختصاصات الطبية حتى يحوز على أعلى الشهادات والألقاب العلمية. لقد أزمع أن يسلك طريق البحث العلمي حتى يصبح عالماً من علماء الطب البارعين الذين يتحدث العالم عن إنجازاتهم وأبحاثهم.. .
إن علماء الغرب ليسوا بأذكى منا، فلماذا نحجم عن الغوص في ميادين البحث والإختراع؟.. لا بد أن نقتحم أسوار المجد مهما كانت شاهقة، وأن نقطع الطريق إلى قمته السامقة مهما أدمت أقدمنا الأشواك....
وكثيرا ما داعبت خيال عصام تسميات لنضريات أو مكتشفات علمية بأسماء عربية أو باسمه هو بالذات، يتداولها العالم بأسره ويدرسها طلاب الطب في الشرق والغرب ، ويعتمدها علماء الطب وباحثوه.
وعندما كان عصام يعود من رحلة أحلامه إلى دنيا الواقع، يتذكر أنه ما زال على سفوح المجد الذي يحلم به، وأن قمته المنشودة ما زالت بعيدة، وأن الطريق إليه ما زال طويلا...
ما علينا ... إن الطريق مهما كان طويلا، فإنه يبدأ بخطوة ... وقد خطا عصام خطوته الأولى بدخوله كلية الطب، وعما قريب سيحقق الخطوة الثانية، بتخرج متفوق باهر، وبعد ذلك سوف يغذ السير إلى غده الواعد ليحقق المزيد من طموحاته فيمتلك العلم والشهرة والمال، وعندها سوف يسعد أمه الحبيبة وينسيها أيام العذاب والحرمان، ويزرع حياتها بالمسرات والأفراح. وفي كل مرة كان يستيقط فيها عصام من أحلامه كانت تنبثق في أعماقه طاقة هائلة من العزم، فينهمك في دراسته في شغف وانسجام وإلى جانبه دفتر صغير اعتاد أن يدون عليه ملاحظاته وتساؤلاته ليطرحها على أساتذته، ويناقشهم فيها. إنه لا يحب أن تمر على ذهنه فكرة دون أن يسبر أغوارها، لذلك فهو يقرأ دائما السطور. .. وما وراء السطور..
أقدم لكم رواية دموع على سفوح المجد لدكتور عماد زكي
نبذة من المؤلف
هذه القصة:
لوحة حزينة من صميم الحياة ، التقطت أحداثها من بحر النسيان ، فحملتها إلى شطآن الذاكرة ، فجففتها بمدادي وغلفتها بكلماتي ، بعد أن أعدتُ إليها بعض معالمها الضائعة ، وعمقتُ فيها بعض الخطوط والألوان ، ثم وضعتها في متحف الأيام ، عبرة بالغة لمن أراد الإعتبار .
الدكتور عماد زكي
الـفـصــل الأول
(( يجب أن أطرق أبواب المجد بعزم وإصرار )). هكذا قال عصام في نفسه، وهو يعبر الشارع إلى الطرف الآخر، في طريقه إلى شركة ((التجهيزات العلمية)) لشراء مجهر ومجموعة من الأدوات المخبرية التي قرر أن يجعلها نواة لمختبر متواضع أزمع على إقامته في غرفة خاصة اختارها لهذا الغرض.
وفي الطريق صادفته مكتبة فخمة تألقت واجهتها المضيئة بمجموعة من الكتب المنوعة وقد رتبت بذوق وإتقان، فوقف يتأمل عناوينها، ثم ما لبث أن دلف إلى داخلها . وراح يتجول في أرجائها ، وقد ملئت رفوفها بآلاف الكتب والمجلدات ، فأعجبته طائفة من الكتب العلمية التي شدته موضوعاتها الشيقة فحملها معه ، كما استهوته طبعة أنيقة (( لدائرة المعارف البريطانية )) فطلب من البائع أن يحضر له نسخة منها ثم دفع ثمن ما اشترى وحمل كتبه ومضى ...
* * *
كان عصام طموحا جدا ، وكان أهلا للطموح ...فقد وهبه الله ذكاءً متوقدا ، وفضولاً ملحاً ، يبحث عن المجهول ، ويسعى نحو كل جديد ، أضف إلى ذلك إرادة صلبة وهمة عالية ، وعزيمة تهزأ بالصعاب ... وكثيرا ما عبر أساتذة عصام –خلال تاريخة المدرسي الحافل- عن رأيهم فيه بقولهم ((إنه فلته من فلتات الزمان))حتى أن أستاذين من مدرسي مادة الرياضيات في المدرسة تراهنا ذات يوم على من يسأل عصاماً سؤالاً صعبا يعجز عن الإجابة عليه على أن يكون من ضمن المنهاج المقرر، فكان أن خسرا الرهان وازداد إعجابهما بذكاء عصام وتوفقه غير العادي، لدرجة أن أحدهما كان يستدعيه كلما صادفه طالب كسول من طلاب الشهادة الثانوية يتلكأ في حل التمارين الرياضية التي كان قد تعلم حلها في السنوات السابقة، فيحلها له عصام بسهولة تنم عن تمكنه وثقته بنفسه، فما يكون من ذلك الأستاذ إلا أن يأمر طلابه بالتصفيق ثناء عليه، ثم يتوجه إلى تلميذه المهمل بقوله : ((لعله يكفيك عقاباً أن يحل لك التمرين طالب يصغرك بثلاث سنوات دراسية... يعني مرحلة دراسية كاملة)) ثم يشكر الأستاذ عصاماُ على اجتهاده فيمضي مزهواً بنفسه، فخوراً بسمعته، تياها بما أنجز...
بيد أن تفوق عصام لم يكن يتقصر على مادة ((الرياضيات)) فحسب، بل تعداها إلى كل المواد الدراسية الأخرى، لا سيما مادة ((علم الحياة)) التي كانت تجذبه فيجد فيها متعة كبيرة. وقد دفع اهتمامه الزائد بهذه المادة الأستاذ ((عدنان)) مدرس (علم الحياة) إلى أن يطلق عليه لقب ((الدكتور عصام)) مداعبا ومشجعاً، فجاء هذا اللقب بغتة وذهب مثلا، فما لبث أن لصق باسمه، فكان ينادى به في المدرسة والبيت.
وعندما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية، تحول لقب التشجيع والإطراء إلى لقب هو أقرب ما يكون من الحقيقة... فقد كان عصام الثالث على دفعة الشهادة الثانوية لذلك العام، مما أهَّلَه لدخول كلية الطب بجدارة.
وفرحت أم عصام يومها فرحاً عظيماً، عندما زفَّ عصام إليها النبأ، فضمته إلى صدرها في حب وحنان وراحت تلثم وجهه، وهي تهتف من بين الدموع ((مبروك يا حبيبي ... أنا اليوم أسعد أم في الدنيا ... مبروك يا ولدي)). واختلطت في عينيها دموع الفرح الكبير بدموع الحزن القديم على زوجها الفقيد، الذي اختطفته يد المنية قبل أن تقر عيناه بدخوله ابنه كلية الطب كما كان يحلم ويشتاق، إذ توفي قبل سنوات إثر نوبة قلبية مفاجئة.
وانتزعت الذكريات الحزينة الأم من فرحتها العارمة، لتنقلها إلى الوراء... فتمتد بها الذكرى إلى تلك الأمسية الجميلة، حيث كانت مع زوجها الراحل، تضمهما سهرة سمر في حديقة المنزل، بينما كان عصام – وله من العمر يومها ثلاث سنوات – يداعب قطته ((ياسمين)) التي كان يألفها وتألفه... إنها لا تزال تذكر كلمات زوجها الحبيب حينما قال لها ونظراته تعانق وجه ابنه الوسيم :
- هذا الطفل يا هيفاء يملك ذكاءً عجيباً.. علينا أن نتعني به اعتناءً فائقا، حتى يشب رجلاً عظيماً، ويحمل العبئ عن كاهلنا في مستقبل الأيام.
- أجابته يومها وهي تمازحه:
أتمنى لو يصبح إبني مهندساً كبيراً، ليبني لنا ((فيلا)) جميلة تحف بها الحدائق والأشجار...
فاستجاب الأب لدعابتها وقال بلهجة ضاحكة:
- أنتن النساء دائماً هكذا لا يهمكنَّ إلا المظاهر والقـشـور، ولا تفكرن إلا بـ ((الفيلا )) الفخمة والثوب الجميل...
- ثم اعتدل في جلسته وتابع بنبرات حالمة:
- أريده يا أم عصام أن يصبح طبيباً كبيراً... يساعد الناس ويداوي أمراضهم ويخفف آلامهم، والطبيب يا امرأة... يملك اليوم مكانة إجتماعية مرموقة، ويشير الناس إليه بالبنان، لا سيما إذا كان ناجحاً مشهوراً...
- ثم أردف وقد عادت إليه روح الدعابة من جديد:
ثم لا تنسي يا عزيزتي أن مهنة الطب تدر المال الكثير، وبذلك يحقق لك حلمك فيشتري لك ((الفيلا)) التي تتوقين إليها.
لقد التقطت يومها عصاماً، فضمته إلى صدرها في حنان وقالت وهي تغرقه بالقبلا ت:
- بل يشتريها لزوجته التي لا بد وأنها ستختطفه مني في يوم من الأيام....
وانتبه عصام لشرود أمه، وطالع في وجهها ملامح الحزن والكآبة فأدرك ما تفكر به لأنه كان يعاني من الخواطر ذاتها، لذا فهو يشعر اليوم أن فرحته عرجاء، موشحة بالحزن، منداة بالدموع، لأنه لا يجد أباه بقربه، يشاركه بهجته، ويبارك فوزه الكبير...
ورأى أن من واجبه أن ينتشل أمه من دوامة الذكريات فقال لها مواسياً:
- أماه.. سوف تجدين مني كل ما يرضيك ويقر عينيك، وسوف أنسيك عما قريب كل أحزانك القديمة. ثم ضمها إليه ليخفي عنها الدموع التي ترقرقت في عينيه أسفاً على أبيه الذي مات عنه وهو ما زال طفلاً، فنشأ يتيماً محروما من حنان الأب وعطفه، وإن كانت أمه قد عوَّضته عنه الكثير.
إنه يشعر أن أمه هي كل شئ في حياته.. إنها الواحة الخضراء التي يلجأ إليها من قيظ الأحزان ليجد عندها الراحة والسلوى والعطف والإهتمام.. إنها المعلم الملهم الذي يتلقى عنه مبادئ الحكمة ودروس الحياة...
لقد لعبت أمه دوراً كبيراً في تكوين شخصيته، فقد ربته على الأخلاق الفاضلة، وغرست في نفسه حب العمل والصبر على التعب، وعوَّدته على احترام الوقت والنظام، ونأت به عن الدلال والميوعة والانحلال ، فنشأ فتى رشيداً... قوي النفس والإرادة... علي الهمة ... طاهر الوجدان... يسعى نحو رجولة مبكرة تبشر بالكثير. لقد كانت أمه دائما وراء تفوقه ونجاحه، تحفه بالدعوات الضارعة، والكلمات المشجعة التي كانت تدفعه قدماً إلى الأمام :
- أماه أنت صاحبة الفضل الأول في نجاحي، وإليك سوف أهدي كل منجزاتي.
قالت الأم وهي تطبع على جبينه قبلة حانية:
- بل هو تعبك واجتهادك يا ولدي ، وقد أثمر الآن...
- أدامك الله يا أمي ذخراً لي، ووفقني لإرضائك....
* * *
ودخل عصام الجامعة... فاستهوته علوم الطب التي طالما عشقها، واستغرقت وقته وتفكيره وصارت شغله الشاغل ثم بدأت طموحاته تنمو وتتبلور مع الأيام... إنه لا يرضى أن يكون مجرد طالب في كلية الطب، بل لا بد أن يكون الطالب الأول فيها بلا منازع. ثم إنه لن يكتفي بشهادة (( البكالوريوس ))، بل لا بد له من متابعة دراسته العليا في إحدى الاختصاصات الطبية حتى يحوز على أعلى الشهادات والألقاب العلمية. لقد أزمع أن يسلك طريق البحث العلمي حتى يصبح عالماً من علماء الطب البارعين الذين يتحدث العالم عن إنجازاتهم وأبحاثهم.. .
إن علماء الغرب ليسوا بأذكى منا، فلماذا نحجم عن الغوص في ميادين البحث والإختراع؟.. لا بد أن نقتحم أسوار المجد مهما كانت شاهقة، وأن نقطع الطريق إلى قمته السامقة مهما أدمت أقدمنا الأشواك....
وكثيرا ما داعبت خيال عصام تسميات لنضريات أو مكتشفات علمية بأسماء عربية أو باسمه هو بالذات، يتداولها العالم بأسره ويدرسها طلاب الطب في الشرق والغرب ، ويعتمدها علماء الطب وباحثوه.
وعندما كان عصام يعود من رحلة أحلامه إلى دنيا الواقع، يتذكر أنه ما زال على سفوح المجد الذي يحلم به، وأن قمته المنشودة ما زالت بعيدة، وأن الطريق إليه ما زال طويلا...
ما علينا ... إن الطريق مهما كان طويلا، فإنه يبدأ بخطوة ... وقد خطا عصام خطوته الأولى بدخوله كلية الطب، وعما قريب سيحقق الخطوة الثانية، بتخرج متفوق باهر، وبعد ذلك سوف يغذ السير إلى غده الواعد ليحقق المزيد من طموحاته فيمتلك العلم والشهرة والمال، وعندها سوف يسعد أمه الحبيبة وينسيها أيام العذاب والحرمان، ويزرع حياتها بالمسرات والأفراح. وفي كل مرة كان يستيقط فيها عصام من أحلامه كانت تنبثق في أعماقه طاقة هائلة من العزم، فينهمك في دراسته في شغف وانسجام وإلى جانبه دفتر صغير اعتاد أن يدون عليه ملاحظاته وتساؤلاته ليطرحها على أساتذته، ويناقشهم فيها. إنه لا يحب أن تمر على ذهنه فكرة دون أن يسبر أغوارها، لذلك فهو يقرأ دائما السطور. .. وما وراء السطور..
تعليق